صفد هي مدينة عريقة التاريخ، تقع
في منطقة الجليل الأعلى على قمة جبل كنعان وعلى ارتفاع قدره 839 متراً.
وكانت إحدى خمس مدن فلسطينية عامرة ومزدهرة في فترة الانتداب وما سبقها (
المدن الأخرى هي طبريا وبيسان والمجدل وبئر السبع )، والتي تم إنهاء
الوجود العربي فيها بشكل تام بعد حرب ونكبة عام 1948 – 1949.
كانت
هذه المدينة في فترة الانتداب البريطاني جزءاً من لواء الجليل ومركزاً
لقضاء عرف باسمها. بلغت مساحة قضاء صفد في عهد الانتداب البريطاني حوالي
750 كيلومتراً مربعاً، وضم إضافة لمدينة صفد 69 قرية، هذا إضافة لبعض
المجمعات البدوية.
وكانت قرى (قدس، صلحا، هونين والمالكية ) من هذه
القرى قد ضمت لقضاء صفد بعد أن سلخت من لبنان عام 1923. علماً بأن
الغالبية الساحقة لقرى هذا القضاء (بما في ذلك مدينة صفد العربية ) كانت
قد دمرت عام 1948 باستثناء أربع قرى وهي الجش وعكبرة وطوبا وحرفيش
والريحانية.
كانت صفد في فترة الانتداب مركزاً من المراكز النشطة
للحركة الوطنية الفلسطينية، فقد كانت إحدى بؤر هبة البراق عام 1929 والتي
ابتدأت أحداثها في القدس، وامتدت من هناك إلى مدن فلسطينية أخرى وخاصة
مدينتي صفد والخليل. علماً بأن أحد أبنائها، فؤاد حجازي، كان واحداً من
الشبان الفلسطينيين الثلاثة (الاثنان الآخران هما محمد جمجوم وعطا الزير
من الخليل )، الذين أعدمتهم سلطات الانتداب البريطاني في السابع عشر من
حزيران 1930 بتهمة تأجيج وتنظيم أحداث آب –أيلول 1929.
وفي صفد
تشكل في نهاية عام 1929 وبداية عام 1930 فصيل "جماعة الكف الأحمر" برئاسة
أحمد طافش وهو أول فصيل فلسطيني مسلح في منطقة الجليل. وفي ثورة 1936 –
1939 كانت صفد ومنطقتها معقلاً مهماً من معاقل الثورة الفلسطينية، وفيها
نشطت فصائل منطقة الجليل بقيادة أبو إبراهيم الكبير ( خليل العيسى )
وفصائل محلية بقيادة عبد الله الشاعر وعبد الله الأصبح، وقد بلغ عدد ثوار
هذه الفصائل بضع مئات من أبناء مدينة صفد وقراها.
بلغ عدد سكان المدينة عام 1947 قرابة 13500 نسمة، منهم 2600 يهودي. أما مساحة أراضيها الزراعية فقد بلغت قرابة 5000 دونم.
نكبة مدينة صفد وتهجير سكانها:
أكسبت
تركيبة مدينة صفد السكانية وكونها مدينة مختلطة هذه المدينة أهمية خاصة
ووضعتها على رأس أجندة الطرفين اللذين حاولا جاهدين تأمين السيطرة عليها
وعلى محيطها القروي خاصة بعد مغادرة البريطانيين لها في نهاية نيسان 1948.
بدأت المناوشات في الثاني عشر من كانون الأول 1947 بعد قتل شاب
يهودي في سوق صفد الكبير على إثر اتهامه بمحاولة تفجير نفسه بين الجموع.
وقد رد اليهود على ذلك بسلسلة من أعمال القنص أدت إلى استشهاد شابين من
العرب هما حسني القوصي وربحي قدورة.
في الخامس والعشرين من الشهر
ذاته جرت المحاولة العربية للاستيلاء على القلعة، إذ جرت حولها معركة
حامية سقط فيها بعض القتلى من الجانبين، ولم يكتب للمقاتلين العرب السيطرة
على القلعة بسبب تدخل القوات البريطانية التي لم تغادر يومها القلعة بعد.
حتى
بداية كانون الثاني 1948 قاد فايز قدورة المسلحين والحراس العرب في صفد
إلى أن حضر إليها الضابط السوري إحسان ألماز. قام هذا الضابط بتنظيم
المقاتلين العرب وعمل على تدريبهم وتحضيرهم للمواجهات. ووضع خطة محكمة
لمحاصرة الحي اليهودي، ومنع قدوم المؤن والذخيرة إليه.
واضطر
اليهود بسبب ذلك الحصار لتشغيل بعض القوافل من السيارات المصفحة بغرض
الوصول للحي اليهودي ونجدته، كما وحاولوا كسر الحصار من خلال مهاجمة
واحتلال بعض القرى العربية المشرفة على طريق جبل كنعان المؤدية لصفد.
في
الخامس عشر من نيسان قامت قوات المتطوعين العرب من دخول نقطة البوليس
البريطاني ومبنى الحاج فؤاد الخولي، الواقع على الحدود المتاخمة بين الحي
اليهودي والأحياء العربية، والذي كان البريطانيون قد صادروه بعد بدء
المناوشات للفصل بن الأحياء العربية والحي اليهودي. حاولت القوات اليهودية
السيطرة على هذين المبنيين في هجوم معاكس في الثامن عشر من نيسان، ولكن
القوات العربية المتحصنة فيهما نجحت في صد الهجوم والسيطرة على بعض
المواقع اليهودية الأمامية.
في اليوم ذاته وصلت طلائع وحدة
أردنية تابعة لجيش الإنقاذ يقودها الضابطان أميل الجمعان وساري فنيش. وفي
اليوم التالي وصلت سرية متطوعين سورية قوامها 80 مقاتلاً بقيادة عبد
الحميد السراج ( الرجل الأول في سوريا أيام الوحدة مع مصر لاحقاً ) وهشام
العظم.
لم يكن قدوم هذه النجدات بادرة خير على المجهود الحربي
العربي ومعنويات الأهلين، إذ أنه سرعان ما تصادم الضابطان الأردنيان،
اللذان عملا على التهدئة، وفرضا منع التجوال على السكان، مع الضبط
السوريين وقائد قوات المتطوعين إحسان ألماز الذي رأى بوجوب القيام
بمبادرات هجومية لضرب معنويات الحي اليهودي من جهة، ورفع معنويات أهالي
صفد من جهة أخرى.
وقد أدى هذا النزاع إلى انقسام أهل المدينة بين
مؤيد لهذا أو ذاك من الضباط، ولم يكن بد من استبعاد إحسان ألماز خاصة بعد
قدوم سرية أخرى من جيش الإنقاذ تحت قيادة الجنرال أديب الشيشكلي (رئيس
سوريا فيما بعد في الفترة الواقعة بين 1949 -1955) وتوليه القيادة العليا
بنفسه.
في مطلع أيار كان اليهود قد سيطروا على قريتي عين الزيتون
وبيريا وقد نجحوا بذلك بكسر الحصار العربي على الحي اليهودي في صفد،
وتحويل الوضع إلى وضع معاكس، بحيث أصبحت الأحياء العربية هناك تحت الحصار.
وفي ظل هذه الظروف كان أمر سقوط صفد هو مسألة وقت ليس إلا خاصة إزاء
الإصرار اليهودي على ذلك وذلك تمهيداً لبسط السيطرة اليهودية على الجليل
الأعلى بكامله.
وعن أهمية كسر شوكة أهل صفد من العرب كمقدمة
للسيطرة على الجليل الأعلى، قال يجئال ألون، قائد قوات "البالماح" التي
تولت مهاجمة المدينة، في توجيهاته للقوات المهاجمة: " إن عرب صفد هم
العامل الأقوى في منطقة الجليل الأعلى، وعليه فإن احتلال صفد، سيخفف إلى
حد كبير، من صعوبة احتلال أماكن أخرى في الجليل الأعلى وإصبع الجليل".
وبغرض تجميع القوات اللازمة لهذه العملية قامت القيادة اليهودية بوضع لواء
ألون 11 من قوات "جولاني" ولوائين من قوات "البالماح" تحت تصرف يجئال ألون
الذي اخذ يتحين الفرص للانقضاض على الأحياء العربية من مدينة صفد
واحتلالها.
في اليوم السابع من أيار قام أديب الشيشكلي بوضع خطة
لمهاجمة الحي اليهودي وكسر الحصار، حيث بدأت بطارية المدافع التابعة لجيش
الإنقاذ والمرابطة برأس التينة ووادي الطواحين بقصف الحي اليهودي تمهيداً
لاقتحامه. وعلى أثر ذلك قامت القوات اليهودية بشن هجوم مضاد في الثامن من
الشهر ذاته. نجح المدافعون العرب بصده بشق الأنفس. لكن القوات اليهودية
أعادت الكرة في هجوم شامل حمل اسم "عملية يفتاح" بدأ في العاشر من أيار
واستمر في الحادي عشر منه. وفي نهايته نجحت القوات اليهودية ببسط سيطرتها
على المدينة العربية بعد أن أخلتها سرايا جيش الإنقاذ في اليوم الأول
للهجوم ولم يبق في المدينة إلا عشرات من المقاتلين المحليين، وبعض
المتطوعين العرب الذين تحصنوا في مبنى القلعة وقاتلوا حتى النفس الأخير.
ودخلت
القوات اليهودية صفد بعد أن تم تهجير أهلها تحت وقع القتال المرير الذي
دار هناك. استشهد في عملية الدفاع عن صفد قرابة 100 شهيد وجرح العشرات،
وقد تم أسر بعض الشباب ووضعهم في المعتقلات حتى تم إطلاق سراحهم بعد
التوقيع على اتفاقيات الهدنة.